انطباع حول كتاب من حديث النفس

انطباع حول كتاب من حديث النفس

1

منذ سنتين

ما قيمة ما تحدِّثنا به الأنفسُ إن لم يكن حديثَ تأنيبٍ وتوبيخٍ وتصويبٍ، أو حديثَ قناعةٍ ورضًا، أو دعوةً إلى التفكُّر في ملكوت الحق جلَّ وعلا؟

ما قيمتُه إن لم يكن بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ، يأخذ الألباب، ويُغني عن الأصحاب، ويُشعرك في وحدتك بالأُنس التام، والطُّمأنينة وراحة البال؟ فتخطو الخُطى وأنت تحمل بين جنبيك قائدًا وواعظًا وأديبًا ساحر البيان.

ثم ما قيمة الأدب إن لم يكن ترويحًا عن النفس، وتلوينًا للحياة، وتجميعًا للفصول في فصل الربيع؟ وما قيمة ما تقرؤه منه إن لم تجد نفسك في كلمةٍ من كلماته، أو عبارةٍ من عباراته، أو صورةٍ من صوره؟ فتجدك تسقط منك عبرات بمرورك على بعض العبارات أحيانًا، وترتفع قهقهتُك في غرفتك كالمجنون أحيانًا، فتختلف ملامحُك باختلاف ما تقرؤه، ولربما نظر إليك أحدُهم وحاله تقول: أبهذا الرجلِ جِنَّةٌ؟!

إن الأدب حقًّا هو الذي يخترق الأنفسَ بعبارة سهلة يسيرة، لا تكلُّف فيها ولا اصطناع، فصيحةِ اللفظ، شريفةِ المعنى؛ فتصنع بالقلوب ما يصنعه الغيثُ بالتُّربة الكريمة، وقد قال الأصمعي: "البليغ: هو من طبق المفصل، وأغناك عن المفسر".

وهذا واللهِ ما وجدته في كتابات شيخ الأدباء علي الطنطاوي، عليه رحمات ربي تَتْرى؛ ولأن آخر كتاب قرأت له هو: "من حديث النفس"، كانت هذه السطور انطباعًا حول هذا الأخير، فكيف تراني أصف لكم تلك الجواهر والدرر الثمينة الموجودة بين جلدتي هذا الكتاب؟!

لقد قطفت منه ما يزيد عن عشرين زهرةً، أرويت بها نفسي، وزيَّنتُ بها فكري، وأهديتُها غيري، وما مثلي ومثل ما قطفت منها إلا كمثل ما يفعله الغيث بالتربة الكريمة.

ولأن لكل شيء دوافعَ وأسبابًا، فإن من الدوافع والأسباب التي جعلتني أقرأ الكتاب أمرين:

أولهما: حبي للشيخ ولكتاباته التي تجمع بين الفقه والأدب، فما فتئتُ أتعلم منها ما أجهله من ديني ودنياي.

 

وثانيهما: أني قرأت مقتطفًا من الكتاب في أحد مواقع التواصُل، فوجدتني هناك في قوله: "إن الآمال لا تنتهي؛ فمن أُعطي المليون ابتغى المليونين، ومن رُفع في الوظيفة درجةً طلب درجتين، فلا يزال في شقاءين: شقاء بالحاضر الذي لا يقنع به، وبالآتي الذي لا يصل إليه"[1].

 

ولقد كتبت يومًا: "علي الطنطاوي رحمة الله عليه يكاد يكون أفضلَ كاتبٍ قرأتُ له، حتى صرت لا أرى شيئًا له إلا انشرحت صدرًا.

لقد أثر فيَّ رحمه الله فكرًا وأسلوبًا، وكان من أبرز الناس الذين ذقت من أقلامهم حلاوةَ اﻷدب التي لم أذقْها طيلة مسيرتي الدراسية، رغم أن تخصُّصي كان أدبيًّا، ولعل هذا راجعٌ إلى تفريطي وعدم قدرة أساتذة اﻷدب على إرسال رياحينه إلى الطلاب"

وأنت أيها القارئ، إذا قرأت الكتاب فإنك ستجده يتحدث عنك أحيانًا، وإليك أحيانًا أخرى، يعود بك سنوات مضتْ فيُريكَها في خيالك وكأنها حاضر اليوم، ستجدك مع كاتب يتحدث عن نفسه كثيرًا، يسطر آلامها وآمالها، سعادتها وحزنها، ليلها ونهارها... وفي حديثه عن نفسه ولها حديثٌ لك وعنك؛ لذلك قال: "أنا حينما أتحدِّث عن نفسي أتحدِّث عن كل نفس، وحين أصف شعورَ واحدٍ وعواطفه أصف شعور الناس كلِّهم وعواطفَهم، كصاحب التشريح لا يشق الصدور جميعًا ليعرف مكان القلب وصفته، ولكنه يشق الصدر والصدرين، ثم يُقعِّد القاعدة، ويؤصِّل الأصل، فلا يشذُّ عنه إنسان... سنة الله في الخلق وقانونه المحكم"[2]، "ولا تقولوا إذا سمعتم حديثي: هذا رجل لا يتكلم إلا عن نفسه؛ فكذلك اﻷدباء كلهم لا يتكلمون إلا عن أنفسهم، ولكنهم إذ يصفون أحلامها وآلامها يصفون أحلام الناس كلِّهم وآلامَهم، فهم تراجمةُ العواطف، وألسنةُ القلوب، وصدى الخواطر، حتى يقول القارئ إذ تمرُّ به آثارهم: ما هذا؟ إن في هذا التعبير عما أحس به، إنه وصف لي أنا وحدي ... وما هو له وحده، إنه وصف لكل نفس بشرية"[3].

ولأن الأديب فقيه، فإنه لا يفتأ يعظك، ويعلِّمك، ويُريك طريق النجاة، ويُنافح عن كتاب الله ولُغته وعلومه، قال في الضاد معتزًّا: "فالتاريخ يعرف طفولة كل لغة وشبابها، ويعرف تدرُّجها في طريق الكمال، أما العربية، فلم يعرفها التاريخ إلا كاملةً مكملةً؛ ﻷنها أسنُّ من التاريخ!"[4].

وعجبك عجبك من قوم أهملوا لغتهم وضيَّعوها! وما هذا إلا إهمالٌ لكتاب الله وسنة نبيِّه؛ لأن المتمسِّك بهما لا يسعُه إلا الاعتزاز بلغة العرب، وها هم قومنا يظنون أن طريق الازدهار والتحضُّر في هجر هذه اللغة المشرَّفة والتمسُّك بغيرها... وهذه نكبة أخرى تعيشها العربية، وقد مرَّت من قبلُ "بضروب من النكبات، لو أُنزلت على جبل شامخ لتصدَّع، ولو أصاب غيرَها من اللغات معشارُ ما أصابها منها لَعَفَتْ رسومُها، واندرست معالمها، ولكن الفضل في سلامة هذه اللغة الكريمة، ونجاتها من براثن الفناء والموت - يرجع إلى القرآن الكريم"[5].

إن من اعتنى بالضاد، وتمسَّك بالقرآن الكريم، سيعرف الطريق، بل وستُضاء له لا محالة، و "إن الطريق على الأرض مسدودٌ، والفضاء من حولك له حدود، وما طريق الفضاء وسبيل الانطلاق إلا من "فوق"، هناك عالم النفس"[6].

هناك ستنجلي الأحزان والحيرة والقلق، سيتخلص القلب من الران، وسيعود أبيضَ كالثلج، كل أموره خير، إن أصابته سراءُ شكر، وإن أصابته ضراء صبر، سيعي حقيقة الوجود والغاية من الحياة.

--------------------------------------------------------------------------------------

[1] من حديث النفس، ص: 246.

[2] نفسه، ص: 21.

[3] نفسه، ص: 89.

[4] نفسه، ص: 188.

[5] نفسه، ص: 196.

[6] نفسه، ص: 248.

------------------------------------------------

المصدر: شبكة الألوكة

Powered by Froala Editor