إطلاق تجريبي
14
منذ سنتين
إن اصطحاب الكتاب وجعل القراءة أحد برامجنا اليومية, أسوة بسائر أعمالنا الأخرى, التي هي من ضروريات الحياة, يعد أمراً هاماً في تكويننا العلمي والثقافي, وهذا يحتاج منا إلى إعادة صياغة أوقاتنا من جديد, وترتيب الأولويات والمهمات فيها, على نحو لا قصور فيه ولا اعوجاج.
كثيراً ما نعلل انصرافنا عن القراءة وجليل الأمور بأسباب متعددة, قد تختلف من شخص لآخر, ومن فئة لأخرى, لكن يجمعها جامع واحد هو ما يعبر عنه بـ الأسباب الخارجية التي لها اثر بلا ريب.
وهذه الأسباب متنوعة, تارة نلقي اللوم على العمل والانكباب عليه, ومرة على الأهل والأتراب والأنس بهم, وتارة على الوقت وازدحامه بالأعمال الضرورية, ثم نظن إننا لو تخلصنا منها لتحقق لنا ما نصبو إليه,
لكن ألم يكن جديراً بنا أن نضيف السبب إلى مسببه, والعلة إلى مُعلها حتى يتفق لنا معالجة المشكلة وحل القضية بجدية.
إن السبب الرئيس بلا مراء الذي يصدنا عن القراءة نابع من أنفسنا وذواتنا, وإن الخلل يكمن فيها, والعلاج يبدأ فيها وينتهي إليها, ولا أراني أزجي الكلام مبالغاً إن قلت: انه لو عزم الواحد منا على القراءة بصدق وعزيمة فسوف يكون له ما أراد, وحينئذ تتهاوى سائر الأسباب الأخرى, فيقرأ في كل أحواله.
ومع هذا فان هناك إضاءات تعيين القارئ على القراءة والاستمرار عليها, لا تلغي معالجة السبب الأم,
ويمكن أن نُجملها على نحو مما يلي:
تجاوز العقبة النفسية:
من العقبات النفسية التي قد تتأصل في نفس إنسان ما, عدم الرغبة في القراءة والنفرة منها, فتجده يردد دائماً(أنا لا أحب القراءة أنا لا أطيق القراءة) وهذا منه تأصيل للنواحي السلبية في نفسه, عن طريق هذه الإيحاءات والتصورات التي تكون عائقاً له عن القراءة وسداً ماثلاً بين عينيه.
إن التخلص من هذه الإيحاءات السلبية يكون بإفراغ النفس منها, لان التخلية قبل التحلية كما يقال, ومن ثم إحلال الإيحاءات الايجابية مكانها والتي منها(أنا أحب القراءة, وأنا استمتع بالقراءة) فإذا نجح في هذا فقد قطع مسافة كبيرة نحو القراءة.
إن العامل النفسي له أثر في النفس في إعلاء شأنها, أو خفض منزلتها, ولما قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه كيف صرت تقتل الأبطال؟ قال" لأني كنت ألقى الرجل فأقدر أني أقتله, ويقدر هو أني أقتله, فأكون أنا ونفسه عليه"
إيجاد الدافع نحو القراءة:
إن الإنسان لا يصادف مشكلة بتاتاً في التعامل مع دوافعه الأساسية كالطعام والأمن وسواهما من ضروريات الحياة, وإنك إن بحثت لن تجد أحداً يستدعيها أو يكون لديه ما لم يكن عليلاً أو مرضياَ, لأنها من الخلقة والفطرة وإليها, وإنما تكمن المشكلة في الاستجابة لدوافعه الثانوية من علم وقراءة وأشباههما..
لقد كان من جراء التخلف والفقر والخوف الذي حل بكثير من بلاد المسلمين, أن أصبح الواحد من المسلمين يجري جرياً لا التفات معه لتأمين حاجاته الأساسية من طعام وشراب, ثم قل لي بربك ما حال حاجاته الأخرى من علم وقراءة ونحوها, إنها لم تخطر له على بال, إن مرت بباله مرت طيف خيال, أو وسوسة هو لها بالمرصاد, وقد تكون قنطرة لعبور مآربه المادية لا غير, وهي بمكان قصي من اهتماماته.
هذا هو النظر الأول الذي يقابلك به جمهرة الناس, ولكن ما هو نظر الشرع لها, ذلك المنظار الذي لا يكبو ولا يخبو, إننا نجد فيه أن العلم مرفوعة عمده, سامق بنيانه, وأن التعلم فيه من ضرب الكفايات, ومن أجل العبادات متى صحت النية وحسن الإتباع, ومتعاطيه ممدوح, وصاحبه مكرم محمود في الدنيا والآخرة, وفي محكم التنزيل (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) المجادلة:11 و" شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو ... إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ " آل عمران:18, وقال النبي صلى الله عليه وسلم" من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين".
ثم إذا نظرنا ثانية في تاريخ المسلمين نجد أن العلماء وطلابهم والأشياخ وتلاميذهم جعلوا العلم أول همهم, وطلبه غاية جهدهم, وصيروه عبادة, فجدوا واجتهدوا وترووا منه حتى أفاضوا به سواهم درساً وكتابة.
وقد حفظ لنا التاريخ أمثلة رائقة من صور هذا الجد, حتى ظنها قوم منا إنها نسج من الخيال, ولون من المبالغات التي لا تقبلها العقول.
ألم يكن من ديننا واعظ, ومن ماضينا معتبر فنجعل التعلم والقراءة من مفردات أيامنا وليالينا, ونعمل على صناعة مجتمع يعرف للعلم أهمية, فلا يعد أمراً هامشياً ثانوياً لا قيمة له.
تكوين عادة القراءة:
إن الأشياء والهوايات التي نمارسها في حياتنا اليومية, إنما صارت عادات بتعلمها أولاً, ثم بممارستها والمواظبة عليها ثانياً, وبهذا تتكون عادة ومهارة وطبيعة ثانية, ومن واقع الناس تعلم المهارات المختلفة, كالسباحة وقيادة السيارة, فإنها كما هو معروف لا تنال إلا بالمرات والتدريب عليها, حتى تصبح عادة بعد حين من الزمن.
ومن هنا فإنه لا يوجد طريقة أخرى لتكون عادة علمية إلا عن طريق إعمالها وممارستها, فلا تتم من خلال التعلم النظري فقط, وإنما من خلال الممارسة والتمرين, والتمرين مع الوقت ينتج الكمالات, والبدايات دائما شاقة لكن لا بد منها,.
وأشق الخطوات هي تلك الخطوة الأولى التي بها يخرج العلم إلى حيز الوجود, لكن لا تنال إلا بالصبر والمثابرة, والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية" كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية
قال ابن القيم(691-751):"مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار فإنها توجب التصورات, والتصورات تدعو إلى الإرادات, والإرادات تقتضي وقوع الفعل, وكثرة تكراره تعطي العادة, فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار, وفسادها بفسادها.."
ومن الطرق التي تعين على ذلك:
1- البدء بالكتب الصغيرة, والقصص المفيدة, والكتب المشوقة والروايات التاريخية, ثم التدرج في ذلك حتى تصبح القراءة لدى الإنسان متعة ولذة, والتدرج في الأمور سنة الحياة كلها.
2- أن تكون القراءة نوعاً من الاكتشاف, وتنمية للعقل.
3- الاجتماع على القراءة, والتواصي على ذلك.
إن القراءة الجماعية ذات أهمية لا سيما عند قوم يحبون الاختلاط مع الآخرين والأنس بهم, فيمكن أن نُفعل تلك التجمعات والسهرات التي يدار أكثرها فيما لا ينفع بالقراءة الجماعية, ومن فوائد الاجتماع على القراءة شحذ الهمم وإيقاد العزائم بين المتجالسين.
من كتاب قراءة القراءة: للكاتب فهد الحمود
Powered by Froala Editor
Powered by Froala Editor