هل هذا الجيل متفرد بذكائه وقدراته؟!

هل هذا الجيل متفرد بذكائه وقدراته؟!

2

منذ سنة

منذ سنوات قليلة انتشَرت بعض الأقاويل التي تُؤكِّد أنَّنا أمام جيل رهيب مُتفرِّد، جيل خارق الذَّكاء، ومُتعدِّد القدرات والمواهبِ، وكم أتحفَتني الأمهات في المجالس - وأمام أولادهنَّ - بالكلام عن ذكاء هذا الجيل وعبقريتِه، وكم سردنَ عليَّ من القصص والحوادث التي تُؤكِّد هذا الزعم وتُدلِّل على صحته! وكم كرّرنَ هذه العبارة خلال أحاديثهنَّ: "هذا الجيل مُتفرِّد متميِّز، فهو ذكي قوي عنيد جريء"، وهن يَحسبن أنهنَّ على الحق، وأنهنَّ بترديد هذه العبارة يدفَعن أولادهنَّ إلى المزيد مِن النجاح الباهر والتفوُّق الخارِق.

 

أما أنا فكنتُ أخالفهنَّ الرأي، فما لمستُ تفرَّد الجيل الذي تحدَّثن عنه ولا شعرتُ بتميُّزه؛ بل وجدته جيلاً عاديًّا، شأنه شأن أي جيل سبَقه؛ فيه النابغة والمُتخلِّف، والذكيُّ والغبيُّ، والقوي والضعيف، ولذلك كنتُ لا أَكترِثُ بما تذكُره الأمهات عن عبقرية أولادهنَّ، ولا أصدق ما يقلْنه عن ذكاء هذا الجيل وتفرُّده، إنما كنتُ أسرَح بعيدًا مشغولةً بمَضمون هذه العبارة، ومُنزعِجةً مِن انتِشارها بهذه السُّرعة بين الأمهات، ومُتوجِّسة من تكرارها وكثرة الكلام فيها، وقلقة من آثارها السيئة، ومِن ضررها وخطرها علينا وعلى أبنائنا من بعدنا إن استمرَّت الأمهات في ترديدها، وإليكنَّ الأسبابَ:

1 - إن عبارة "هذا الجيل متفرد" ليس لها ما يُساندها من دراسة أو استقراء أو أي دليل آخر، وكل الآباء اليوم يزعمون أن أولادهم مُتفرِّدون! إلا أننا لم نحظَ - ومنذ مدة - بعالِم أو بطالب متميِّز، أو بمُكتشِفٍ أو بمُبدِع في المجالات العلمية أو غيرها!

 

فنكون - نحن الأمهاتِ - قد افترضنا أمرًا ثم صدَّقناه وعمَّمناه دون دليل أو برهان، وظن أولادنا - من بعدنا - أنه الحق بعد أن أوحينا إليهم به، وبعد أن قطعنا أعناقهم بترديدنا هذه العبارة "هذا الجيل متفرد"، ففَرِحوا وقعدوا عن الجد والتشمير مُعتمِدين على تميُّزهم هذا وعبقريتهم تلك، مُتناسين أن الظن لا يُغني عن الحق شيئًا.

 

فلنتأكَّد أولاً من صحَّة هذه العبارة قبل ترديدِها حرصًا على مُستقبَل أولادنا، واحترامًا لمشاعرهم وأحاسيسهم، فلا نَصدِمهم فنُحبِطهم عندما يكبرون ويكتشفون مبالغاتنا في تقدير قدراتهم ومواهبهم.

 

ولو افترضْنا جدلاً أن هذه العبارة صحيحة، فإن الركونَ إليها والاعتماد على القدرات الموهوبة دون العمل الجاد المُثمِر يُميت أي إبداع، ويَقتُل أدنى نبوغ، فالإبداع والنُّبوغ تَلزمهما العناية والرعاية والدراسة والاطِّلاع حتى يؤتيا أكلهما، فإن كان الجيل مُتميِّزًا فعلاً فلنَستفِد من هذا التميُّز بهدوء وبتخطيط، وبترديد عبارات هادفة تُثير الفاعليَّة والنشاط، وتحثُّ الأبناء على الاستفادة مِن هذا الذكاء وتلك القدرات في شتى الميادين.

 

 

2 - وهذه العبارة خطيرة؛ لأنها جعَلت الأمور تَختلِط على بعض الأمهات وتتشابَه؛ إذ عجزَت ثُلَّة مِن الأمهات عن الفصل بين الصفات الجيِّدة المَطلوبة وبين السلوك السيئ المذموم؛ فما عادت هؤلاء الأمهات يُدرِكنَ الفرق بين الذكاء المُحبَّب وبين التحايُل والمَكر المكروهَينِ شرعًا، وما عُدنَ يُميِّزنَ بين القوة التي امتَدحها الإسلام وطالب المسلم بالتحلّي بها، وبين الظُّلم والتعسُّف والاعتِداء على الغير، وما عُدنَ يُميِّزنَ بين ضرورة التمسُّك بالمبادئ والثبات عليها، وبين التمرُّد والتعنُّت والإصرار على الرأي والسلوك ولو كان فاسدًا أو خاطئًا، وما عدنَ يُميِّزن بين الجرأة في قول الحق ولو أمام سلطان جائر، وبين وجوب البِرِّ والطاعة وخفض الجناح للوالدَين وغيره.

 

فبعض الأمَّهات تُشجِّع كل سلوك تَحسبه نبوغًا، وتَمتدِح كل فعل تراه مختلفًا، وهي فرحة مُستبشِرة بتميُّز ولدِها وذكائه، ثم تنقُل عدم التمييز هذا إلى الأبناء؛ فصار الأولاد يتباهون بالمُنكَرات ويتفاخَرون بإيذاء الناس، وهم يَحسبون أنهم يفعلون ذلك لا لأنهم جاهِلون غافلون مُنحرِفون؛ إنما لأنهم متفردون متميزون! فهم أذكياء وأقوياء، بل فيهم كل الصفات الجيدة!

 

ثم أساءت هذه الفئة التي تَحسب نفسها مُتفرِّدةً إلى الناس عامة، وساهمَت في تغيير قناعات ثم سلوك بعض الشباب فتسبَّبت في انحِراف المزيد من الأفراد.

 

فأي سوء جلبتْه إلينا هذه العبارة: "هذا الجيل مُتفرِّد".

 

 

3- ولعلَّ الصراع بين الأجيال موجود في كل المُجتمعات، واعتراض الأبناء على قيم الآباء أمر معروف يَشتكي منه المُربُّون، ولذلك كانت لهذه العبارة خطورة تُشبِه سابقتَها؛ إذ يَعتقِدُ المُراهِقون اليوم أنهم أولى بأنفسهم؛ لأن آباءهم لا يَفهمونهم، فهم خُلقوا لزمن جديد وآباؤهم خُلقوا لزمن مضى، ولهذا لا يُدرِك آباؤهم - غالبًا - المستجدات، ولا يفقهون الواقع، ويَجهلون الكثير عن التكنولوجيا، بل ما زالوا يَحمِلون القيم القديمة والعادات والتقاليد البالية، ولا يعرفون أن الزمن قد تغيَّر تغيُّرًا يكاد يكون جذريًّا.

 

فإن كرَّرنا هذه العبارة "هذا الجيل مُتفرِّد" أمام الأبناء رسَّخْنا في نفوسهم هذه الأفكار المُنحرِفة فظنُّوا أنهم بتميُّزهم وذكائهم وقوتهم وعنادهم وجرأتهم، باتوا أقدر منا على تقدير العواقب، وأصبَحوا أكثر مِنا قُدرةً على محاكمة الأمور، وأضحَوا أسلم مِنا منهجًا وسلوكًا وعلمًا في فقه الحياة، فإذا بهم يسألوننا الحرية الكاملة قبل أن يكونوا أهلاً لها، ويُطالِبوننا بالاستقلال الفكري والحق في تقرير المصير، ويتوقَّعون منا بعد هذه العبارة أن نَنصاع إلى رغباتهم تلك راضين مُختارين؛ لأنهم يَظنُّون أن ذكاءهم يغلب خبرة وحكمة وتجارب والديهم، ويُلغي القيم والأخلاق والأعراف التي يُلقِّنونهم إياها، فيَرفُض الأبناء كل شيء، ويتمرَّدون على القيم الرفيعة، ويَستخفُّون بالأخلاق العالية، ويَتطاوَلون على الأعراف والتقاليد المحمودة، وينادون بالتجديد والتحديث، جاهلين أن الدِّين والقيَم والأخلاق ثوابتُ لا تتغيَّر ولا تتبدَّل مهما تقلَّب الزمان وتطوَّر وارتقى أفراده، وهذا سبب - من عدَّة أسباب - لما يَحدُث اليوم في مجتمعاتنا، مِن استِخفافٍ بتوجيهات الوالدَين، والتقليل من شأن القيَم الدِّينيَّة والخِبرات الاجتماعية وغيرها.

 

فلنحذَر مِن هذه العبارة:

"هذا الجيل مُتفرِّد" وأمثالها حفاظًا على أبنائنا، وحفاظًا على الدِّين والقيَم والأخلاق.

-----------------------------------------

عابدة المؤيد العظم

المصدر: شبكة الألوكة

Powered by Froala Editor