إطلاق تجريبي
2
منذ سنة
الملخص العربي:
الحمدُ لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في مُحْكم كتابه: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، القائل وهو الصادق المصدوق: ((مَن سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكةَ لَتضَعُ أجنحتَها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإنه ليَستغفِرُ للعالِم مَن في السموات والأرضِ، حتى الحيتانُ في الماء، وفضلُ العالِم على العابد كفضل القمرِ على سائر الكواكب. إن العلماء هم ورثةُ الأنبياء، لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذ به، أخذ بحظ وافر))؛ حسن لغيره، رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبَّان في صحيحه، والبيهقي.
أما بعد:
فقد حَفَل القرآنُ الكريم بأبحاث ودراسات عديدة حول إعجازه، منها: البلاغيُّ، والبيانيُّ، واللُّغَويُّ، والنفسي، ومنها: التاريخيُّ، ومنها: التشريعيُّ والغَيبيُّ، ومنها: العِلمي.
وهذا الوجه الأخير اهتمَّ به جمعٌ من العلماء؛ كان على رأسهم الإمامُ أبو حامدٍ الغزَّالي (ت 505هـ)، ثم تَبِعه كثيرون، شرعوا في تطبيق ذلك عمليًّا في تفاسيرهم، وكان على رأس هؤلاء: الإمام الفخرُ الرازي (ت 606)، الذي يُعتبَرُ تفسيرُه المسمَّى "التفسير الكبير" أو "مفاتيح الغيب" أولَ تفسيرٍ يَتوسَّعُ في ربط القرآن بالعلوم التي كانت معروفةً في زمانه.
ولم يألُ جهدًا في ذكرِ مباحثَ كثيرةٍ في شتَّى نواحي العلوم الطبيعية، والمعارف الكونيَّة، حسب ثقافة عصره، وما بلغته العلوم في زمانه، ويكفي أن يُراجَعَ الفصلُ الأول في تفسيره لسورة الفاتحة (في التنبيه على علوم هذه السورة على سبيل الإجمال)، حيث يقول:
"يظهر أن معرفة أقسام حكمة الرحمن في خلق الإنسان تشتمل على عشرة آلاف مسألة أو أكثر، ثم إذا ضُمَّت إلى هذه الجملة آثارُ حكم الله تعالى في تخليق العرش، والكرسي، وأَطْباق السموات، وأَجْرام النَّيِّرات من الثوابت والسَّيَّارات، وتخصيص كل واحد منها بقدر مخصوص، ولونٍ مخصوص وغير مخصوص، ثم يُضمُّ إليها آثارُ حكم الله تعالى في تخليق الأمهات، والمولدات من الجمادات والنباتات والحيوانات، وأصناف أقسامها وأحوالها - عُلِمَ أن هذا المجموع مُشتَمِلٌ على ألف ألف مسألة أو أكثر أو أقل".
وبعد أن ترسَّخَتْ قواعدُ تلك العلوم، وكُتِبت فيها أبحاثٌ كثيرة، حتى صارت بعضُ مسائلها من المُسلَّمات - وهو ما يُسمَّى "حقائق علمية" - يمكن أن نجدَ فيما كتبَه الإمام الرَّازيُّ ما هو مُوافِقٌ لما تقرَّر في تلك العلوم، وما هو مجانبٌ للصواب فيها.
لذا؛ جاءت هذه الدراسة لإبراز جهد الإمام الرازي، ومساهماته في التأصيل للتفسير العلميِّ، ومناقشة ما ذكره في "مفاتيح الغيب" في هذا الجانب.
كما أن هذه الدراسةَ تَستمِدُّ قِيمتَها من القرآن نفسِه؛ فهي تَدرُسُ العَلاقةَ بين القرآن والمُكْتشَفات العلمية، نظريًّا وتطبيقيًّا.
اشتملت الدراسةُ على مقدمة، وبابين، وخاتمة:
المقدمة:
اشتَمَلَتْ على تمهيد حول موضوع البحث، وخُطَّته، وحدوده، مع عرضٍ للدراسات السابقة، منها رسالة دكتوراه تحت عنوان: "التفسير العلمي للقرآن في الميزان"؛ للباحث أحمد عمر أبي حجر، و"التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق"؛ للباحثة هند شلبي.
وأوضَحَت المقدمةُ أنه توجدُ دراساتٌ كثيرةٌ ومتنوعة حول الإمام الرازي وتفسيره، ولكن لم يَصْدُرْ مصنفٌ مُفردٌ - في حدود علم الباحث - في جانب التفسير العلمي، الذي شغل حيِّزًا ليس بالقليل في تفسيره.
الباب الأول: الجانب النظري:
يتكوَّنُ الباب الأول من فصلَيْنِ، مُرتَّبَيْنِ وَفْقَ نصِّ عنوان الرسالة "التَّفْسِيرُ العلميُّ عند الإمامِ الرازيِّ".
فجاء الفصلُ الأول ليتناولَ الأُطُرَ التعريفيَّة والنظريَّة المُتعلِّقة بهذا النوع من أنواع التفسير؛ حيث يُقدِّمُ لَمحةً مُوجَزةً عن مفهوم التفسير العلمي، والفرقِ بينَه وبين الإعجاز العلمي للقرآن.
ثم تلا ذلك استعراضٌ لتاريخ التفسير العلمي وأهميتِه، والآراءِ المُتَباينة حولَه: ردًّا، وقبولاً.
وينتهي الفصلُ الأول باستعراضِ الشروط الواجبِ توافرها في التفسير العلمي؛ كي يكونَ مقبولاً.
وجاء الفصلُ الثاني ليتناولَ لَمْحةً مُوجَزةً عن حياة الإمام الرازي، وعصره، وثقافتِه، ورحلاتِه ومؤلَّفَاته، ثم وصيتِه المشهورة قبل مماته.
ثم تلا ذلك استعراضٌ لتفسيره مفاتيح الغيب، والمنهج الذي اتَّبعَه الإمام في التفسير عامةً، وفي التفسير العلمي خاصةً؛ مؤكِّدةً أن تأثُّرَ الإمام بكلام الفلاسفة جعَلَه يَصوغُ أدلَّتَه على نَمَطِ استدلالاتهم العقليَّة، ولكن بما يَتَّفِقُ ومذهبَه؛ فجاءت مناقشات الإمام العلمية مُتَّسِمةً بالصبغة الفلسفيَّة الكلامية؛ وهذا ما كان سائدًا في الطابعِ العلمي آنذاك.
وينتهي الفصل الثاني ببيان السبب الذي لأجلِه شَغَل علمُ الفَلكِ حيِّزًا كبيرًا من مفاتيح الغيب، مقارنةً بسائر العلوم.
الباب الثاني: مناقشةُ التفسيرِ العلميِّ لآيات القرآن الكريم:
وهو الجانبُ التطبيقيُّ في البحث، ويَختَصُّ بمناقشة مواضع "التفسير العلمي للقرآن" التي ذكرها الإمام الرازي، ويأتي هذا الباب وَفْقَ ترتيبٍ موضوعيٍّ في خمسة فصول:
يُناقِشُ الفصلُ الأول الآياتِ التي وردَتْ حول الظواهر السماوية؛ بادئًا بالمطر من ناحية تكوُّنِه ونزولِه، ثم الرعدِ والبرقِ والصواعقِ، ثم الشمسِ والقمرِ والنجوم.
كما عالج وجهةَ نظرِ الإمام حولَ مفهوم السموات السبع، وكذلك تصريف الرياح وتسخير السحاب، وتعاقُب الليل والنهار، وتصوُّر السماء بلا عمد مرئية.
ويناقش الفصل الثاني الآياتِ التي وردَت حول الظواهر الأرضية؛ حيث يبدأ باستعراض الشروط التي ذكرها الإمامُ لكون الأرض فراشًا، وما فيها من منافع، وما لها من أحوال، وكذلك تكوُّن الأنهار والعيون، ومواضع البحارِ، ثم الإعجاز في إحياء الأرض بعد موتِها، وفلق الحب والنَّوَى، واختلاف النباتات والماءُ واحدٌ، وكذلك الجبال وتكوينها والظلال وانتقالها.
ويُناقِشُ الفصلُ الثالث الآياتِ التي وردت حولَ الظواهر الناتجةِ عن العَلاقة بين السماء والأرض، مستهلَّةً باستعراض رأي الإمام في أنه لا مانعَ من وجود عوالمَ أخرى غير العالم الذي نعيشُ فيه، ثم الحكمة في تعيين القِبلةِ في الصلاة، وكيفية تحديدِها عن طريق الرياح أو الجبال، أو النجوم، والأَسْطُرْلاب، وكذلك جعل الزمان مقدَّرًا بالسنة، والشهر، واليوم، والساعة.
وينتهي الفصلُ الثالث باستعراضِ الحكمة من الأمر بالتفكُّر في خلق السموات والأرض.
ويناقِشُ الفصل الرابع الآيات التي وردَتْ حول الإنسان؛ حيث يبدأ بالإعجاز في خلق القلب، والجهاز التنفُّسي، مع ملاحظة أن الإمام خلَط بين وظائف القلب ووظائف الرِّئتَيْنِ؛ وهذا بسبب أن الدورةَ الدَّمويَّة للرئةِ لم تَكُن اكتشفت بعد.
ثم يَستعرِضُ المُفاضلةَ بين حاستَيِ السمعِ والبصر، ثم يَنتَقِلُ إلى الإعجاز في خلق الإنسان، ويردُّ على الطبائعيِّينَ الذين يَنسُبُون كلَّ شيء إلى الطبيعة، وينفون قدرةَ الله وتدبيره.
كما يستعرِضُ هذا الفصل أضرارَ الخمر والشذوذَ الجنسيَّ على الإنسان، وينتهي الفصلُ الرابع باستعراض تفصيلِ الإمام لقضية الرُّوح وترجيحه أن لها هويةً محددةً، وهي أنها أجسامٌ نورانيَّةٌ سماويةٌ لطيفة، تنفذ في البدن ما دام قابلاً لها، مع ملاحظة الباحث أن الروح كانت - وستظل - سرًّا من أسرار هذا الكون الفسيح، استأثَر اللهُ بعلمه.
ويناقش الفصلُ الخامسُ الآيات التي وردَت حول الحيوان والطَّيْر؛ مستهلاًّ بالإعجاز في خلق البعوضة، ثم الإعجازِ في تكوين لبنِ الأنعام، ثم الإعجاز في النحل، وينتهي بالإعجاز في قدرة الطير على الطيران.
وبقيت ملاحظةٌ أخيرة لاحظَها الباحث من خلال استقراءِ احتجاجات الإمام العلميَّة، وهي أنها اعتمدت على ثلاثة أدلة كانت عنده من المُسلَّمات، وهي: عناصرُ المادة الأربعة وطبائعها، وتشابه الأجسام وتماثلها، وأن الأرض ثابتةٌ لا تتحرَّكُ وهي مركز الكون.
بينما اتَّضح خلاف ذلك في العصر الحديث؛ الأمر الذي دفَعَ الباحثَ إلى أن يُفرِدَ مُلحقًا في نهاية البحث لمناقشة هذه القضايا الثلاث.
الخاتمةُ:
خَلَصَت الدراسةُ إلى ما يلي:
• التفسيرُ العلمي للقرآن الكريم أصبح مجالاً لا غنى عنه في بيان القرآن والدعوة به وإليه.
• يُعدُّ الإمامُ الرازيُّ واحدًا من أبرز علماء المسلمين الذين طبَّقوا هذا النوع من التفسير في مؤلَّفاتهم.
• أطول السور التي سُجِّل فيها تفسيرٌ علميٌّ للإمام: البقرة، النحل، الأنعام، الرعد؛ على هذا الترتيب، وقد ارتبطت تفسيراتُ الإمام العلمية ارتباطًا كاملا بالفلسفة، وهناك قضايا وافقت العلم الحديث، وأخرى عارضته.
كما اقترحت الدراسة: التوسُّعَ في الدراسات النقدية لأعمال التفسير والإعجاز العلمي؛ طبقًا للضوابط والمعايير المنهجية التي تحفَظُ هذا النوع من التفسير من الغلوِّ والانحراف.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
---------------------------------------------------------------
مصطفي إبراهيم رسلان
المصدر: شبكة الألوكة
Powered by Froala Editor
Powered by Froala Editor