العلوم الإنسانية: الأبعاد التاريخية والمعرفية

العلوم الإنسانية: الأبعاد التاريخية والمعرفية

2

منذ سنة

تقديم:

بسم الله الرحمن الرحيم، خالق الإنسان مستخلفه في هذا المكان، رازقه مَلَكَةَ التبيين والبيان، بما فيه صلاحه في المعاش والمعاد، والصلاة والسلام على أمين الرشاد، الهادي العباد إلى صلاح الحال والمآل؛ أما بعد:

 تشهد الساحة الفكرية المعاصرة حَرَاكًا فكريًّا ومعرفيًّا كبيرًا؛ انطلاقًا من الأفكار والأسئلة التي أصبحت منتشرة، التي مفادها إشكالات جوهرية من شأنها أن تقدم النموَّ والازدهار الفكري والمعرفي للعلوم الاجتماعية والإنسانية في آن واحد، ولعل من أبرز هذه الأسئلة والإشكالات الجوهرية السياق التاريخي للعلوم الإنسانية: هل نشأت باستقلالية ذاتية أو أنها نشأت في ارتباط مع حقل معرفي آخر؟ كل هذا يُعَدُّ حقلًا خصًبا للدراسات الفكرية والمعرفية؛ إذ إنه يفتح أمام الباحثين مجالات عدة للبحث، والغوص في ثنايا وخبايا هذا الإشكال المعرفي.

 

"فالعلوم الاجتماعية أو العلوم الإنسانية هي دراسات تستخدم المنهج العلمي في دراسة مظاهر الفعل الإنساني على مستوى الفرد، أو الجماعة، أو المجتمع، وهي تشتمل على علم الاجتماع، وعلم الإنسان، وعلم الاقتصاد، وعلم النفس"[1].

 

وعرَّفها علي عبدالمعطي بأنها "تلك التي تدرك العالم على أنه ينطوي على معانٍ، وتكوِّن معرفتنا بتلك المعاني، هذا يعني أن علوم الإنسان تحاول النفاذ إلى الأفكار والمشاعر، والمعاني والمقاصد التي تقف وراء الواقع أو التغيرات المختلفة، وإدراكها إدراكًا كيفيًّا"[2].

 

ومن جهة أخرى، نجد أن (جون ستيورات ميل) يعرِّفها بالأخلاق؛ من أجل التمييز بينها وبين العلوم الطبيعية، و"لقد نحت (جون ستيورات ميل) مصطلح العلوم الأخلاقية Moral science الذي يقابله مصطلح Geisteswissen schafien في اللغة الألمانية؛ لكي يدل على تلك العلوم التي نمت نموًّا كبيرًا في القرن التاسع عشر، وتمايزت عن باقي العلوم الطبيعية"[3].

 

إن الناظر في معاني هذا التعليم، المتبصر في دلالاته، يجد أن العلوم الإنسانية أو الاجتماعية هي العلوم التي تُعنَى بدراسة الإنسان من جميع الجوانب والمستويات، لا على مستوى الفرد، ولا على مستوى الجماعة، لكن الإشكال المطروح في ساحة التداول الفكري في تحرير المعنى الدلالي المعرفي لكلٍّ من العلوم الإنسانية والاجتماعية: هل لها نفس المعنى أو أن هناك اختلافًا منهجيًّا ومعرفيًّا بينهما؟ "وهو إشكال لا يستدعي المقامُ بسطَ ما تداول فيه، خصوصًا وأن الدراسات المعاصرة في مجال الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم لم تَعُدْ تهتم كثيرًا بهذا الإشكال، وذلك على اعتبار أن ما هو إنساني هو اجتماعي بالأساس، كما أن ما هو اجتماعي هو اجتماعي، هو بالضرورة إنساني، ولا يمكن الفصل بين الصفتين إلا على مستوًى نظريٍّ محضٍ، أما على المستوى الواقعي، فهما متداخلان ومتكاملان معًا"[4].

 

غير أنه يوجد مَن يعْتَبِرُ هذا الطرح حول العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية يثير إشكالية تعريفها، والتخصصات العلمية التي تدخل ضمنها، واستشكال العلاقة بين العلوم الإنسانية والاجتماعية، وإن عَمَدَ البعض إلى الأخذ بالتطابق بينهما، فعندما نسأل ابن خلدون، وأوغست كونت، وكارل ماركس، وكدروف، وبياجي، وفوكو - عما هي العلوم الإنسانية، فإن الجواب لن يكون واحدًا، والمبدأ العام المفسِّر لهذا الاختلاف واضح؛ وهو أن التصنيفات التي قدمها هؤلاء المفكرون أو الرؤية التي اقترحوها للعلوم الإنسانية متعلقة من جهة أولى بالوضعية الإبستيمولوجية العامة لمجموع المعارف الإنسانية، عند تقديم كل مفكر لتصنيفه أو اقتراحه لرؤيته، كما أنها متعلقة من جهة ثانية بالموقف الإبستيمولوجي لكل مفكر من نسق المعارف المعاصر له.

 

أنا أحسب أن العلوم الإنسانية والاجتماعية عبارة عن وحدة معرفية متكاملة، ولا يمكن الفصل بينها لا على مستوى التنظير، ولا على مستوى الواقع؛ إذ إن الحديث عن أحد هذه العلوم والتنظير له يستدعي الحديث عن العلم الآخر، ولو بغير قصد، وهذا ما يبين النظرة والوحدة التكاملية بينهما في دراسة الإنسان وتقلبات حياته فرديًّا وجماعيًّا، تفاعله الذاتي، وتفاعله مع محيطه الاجتماعي، وتفاعله مع الله مهما كانت ديانته وانتماؤه العرقي، وهذا ما يفتح لنا الباب لطرح إشكال معرفي؛ ألا وهو: أين تكمن وظيفة العلوم الإنسانية والاجتماعية في دراسة الإنسان، وعلاقته بواقعه المعيش؛ إذ إن هذه العلوم تسعى "جميعها إلى التوصل للمعرفة العلمية، وتحاول أن تستقيَ هذه المعرفة من الواقع، ويمثل الواقع السياق الذي تقع فيه الوقائع الطبيعية والظواهر الاجتماعية والإنسانية؛ فالواقع موجود قبل أي تصور له أو إدراك؛ فهو خارج أي معرفة، ولا يمكن لأي معرفة أن تَزْعُمَ أو تدَّعِيَ أنها هي الواقع"[5].

 

أي: إن هذه العلوم ليست هي الواقع، ولكن وظيفتها العلمية والمعرفية هي دراسة الواقع، والإحاطة ببعض جوانبه، ورصد ظواهره وتحولاته اقتصاديًّا، واجتماعيًّا، وسياسيًّا، ودينيًّا.

 

هذا ما يوحي بعظم هذا الحقل المعرفي في دراسة الظواهر الإنسانية في أبعادها المختلفة، باحثًا عن العِلَلِ والسُّنَنِ التي تدير حركة التاريخ والإنسان، فهذا تخصص علمي له دراية كبرى بأبعاد الإنسان السيكولوجية والإبستمولوجية والديموغرافية، ويحدد العلاقات الترابطية بين هاته الأطراف، وهذا ما يعطي لهاته العلوم غنًى وتنوُّعًا.



[1] الموسوعة العربية العالمية، مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، ط: 2، 1999م، (16/ 371).

[2] علي عبدالمعطي، البحث في منهج العلوم الإنسانية، في كتاب: قضايا العلوم الإنسانية قضايا المنهج، إعداد: يوسف زيدان، وزارة الثقافة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ص: 16.

[3] ريكمان، منهج جديد للدراسات الإنسانية: محاولة فلسفية، ترجمة وتقديم: عبدالمعطي محمد، محمد علي محمد، ط: 1، 1979، بيروت، مكتبة المسكاري، ص: 10.

[4] مصطفى محسن، الخطاب السوسيولوجي: شروط التكوين وآليات إنتاج المعرفة، المركز الثقافي العربي، الرباط، المغرب، ط: 1، 2015م، ص: 107.

[5] أزمة المنهج في العلوم الإنسانية، علا مصطفى أنور، قضايا منهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، رقم السلسلة: 12، ص: 183.


-------------------------------------

المصدر: شبكة الألوكة

Powered by Froala Editor