إطلاق تجريبي
1
منذ سنة
دأَبَ العديد من المحقِّقين على ترك الأصول الخطيَّة برُمَّتها تعجُّلًا والإثبات من المصادر المساعدة (الثانوية)، ويكون الصواب أو الراجح فيما اتفقت الأصول الخطية عليه. حتى إني وجدتُ مِن المحقِّقين مَن يترك الأصول الخطية التي تؤيِّدها بعضُ المصادر المساعدة، ليثبت من مصادر مساعدة أخرى دون تعليقٍ يُبيِّن سبب ترك رواية المصنِّف! ومَن يترك الأصول الخطية والمصادر المساعدة التي تؤكِّد أن هذه رواية المصنِّف، ليثبت من نسخة ضعيفة شذَّ رسمها خطأً -مع خلوِّها من النقط- فوافق الصواب الذي جاء في مصادر التخريج!
وهذا المسلك العجيب في التحقيق لا يمتُّ بأية صلة لأُسُس التحقيق وقواعده، ويبتعد -بلا شك- عن الهدف الرئيس من التحقيق؛ وهو: إخراج متن الكتاب المحقَّق كما تركه مؤلفه أو أقرب ما يكون إلى ذلك[2]، وهذا المسلك -مع الأسف الشديد- واقعٌ في العديد من الكُتُب المحقَّقة المعاصرة!
♦♦ ♦♦ ♦♦
والأمثلة على ما سبق من الكثرة بمكان، ولكن سأكتفي هنا بمثالٍ واحدٍ من "المستدرك على الصحيحين" للحاكم النيسابوري رحمه الله؛ طلبًا للاختصار.
فقد جاء في حديث الحاكم بالمستدرك (طبعة دار الميمان[3] برقم 4314) في كتاب الهجرة: "فقال أبو بكر: يا رسول الله، أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فقال: ((يا أبا بكر، لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟)) قال: نعم، والذي بعثك بالحق، ما كانت لتكون من مَسْلَمَةٍ إلا أن تكون بك دوني".
الشاهد هنا: اتفقت جميع الأصول الخطية على ما تحته خط: (مَسْلَمة ... بك دوني)، والعبارة صحيحة لغةً، والمعنى مستقيم، وعَوْد الضمير في (بك دوني) يؤكِّد صحة رواية (مَسْلَمة).
فماذا فعل أكثر مُحقِّقي المستدرك؟
• في طبعة دار التأصيل[4] (4320)، والمنهاج القويم[5] (4312): قاموا بتغيير "مَسْلَمة" إلى "مُلِمَّة" دون إشارة لما في الأصول الخطية! مع إبقاء "بك دوني" كما هي! فزادوا الطين بِلَّة بإفساد المعنى.
• أما في طبعة الرسالة[6] (4314): فقاموا بتغيير "مَسْلَمة" إلى "مُلِمَّة" دون إشارة لما في الأصول الخطية أيضًا! ولكن قاموا بتغيير "بك دوني" إلى "بي دونك"؛ حتى يستقيم السياق، وعلَّقوا على ذلك بالقول: "في النسخ الخطية: بك دوني. وهو خطأ، وجاء على الصواب في رواية البيهقي في الدلائل 2/ 476".
♦♦ ♦♦ ♦♦
فما أسباب ترك رواية الأصول الخطية هنا واللجوء إلى المصادر المساعدة؟
1- تشابُه الرَّسْم بين الكلمتين: (مَسْلَمة - ملِمَّة)؛ فسارعوا دون رويَّة إلى الجزم بتصحيف أو تحريف الكلمة.
2- أن معاجم اللغة لا تهتمُّ بذكر المصادر القياسية كالمصدر الميمي، إذ إن كلمة "مَسْلَمة" هي مصدر ميمي بمعنى: السلامة؛ ومن ثَمَّ أدَّى الجهل بقواعد الصرف العربي إلى ترك ما في الأصول الخطية.
3- أنهم ساروا وراء الرواية المشهورة وخاصَّة أنها من طريق المصنِّف، والتسليم المطلق للمصادر المساعدة[7] والاعتماد الكلي عليها لمن أكثر الأسباب التي تؤدي إلى التعجُّل في ردِّ ما جاء في الأصول الخطية، ورواية الحديث النبوي بالمعنى من الأمور الثابتة المعروفة، قال محمد بن سيرين: "كنت أسمع من عشرة، اللفظ مختلف والمعنى واحد"[8].
♦♦ ♦♦ ♦♦
والخلاصة مما سبق:
(1) أنَّ القراءة التي اتفقت عليها الأصول الخطية لا يتم تغييرها إلا ببيِّنةٍ قاطعة[9]؛ كأخطاء النُّسَّاخ الواضحة أو التصحيفات الظاهرة أو التحريفات التي تُحِيل المعنى، أمَّا إذا غلب على ظنِّنا بالأدلة والمرجِّحات أنها من أخطاء المصنِّف، فنُثبِت وَهَمَه وخطأه كما هو في الصلب أو المتن، ونعلِّق عليه في الحاشية.
(2) لا يجوز خلط الروايات بدعوى الإصلاح[10].
(3) لا يجوز إصلاح التصحيف بما لا يسمح به الرسم[11].
(4) الشك في النفس قبل الشك في النص[12]، قاعدة مهمَّة جدًّا في تحقيق النصوص.
[1] بقلم: أحمد أحمد صادق، باحث لغوي: حاصل على ليسانس آداب قسم اللغة العربية بجامعة عين شمس 2002م، ودبلوم علوم المخطوط من معهد المخطوطات العربية 2022م. وقد عملت -وما زلتُ أعمل- مراجعًا لغويًّا ومحققًا لكتب التراث -ولله الحمد- في العديد من دور النشر بمصر.
[2] انظر: تحقيق النصوص ونشرها لعبد السلام هارون، مكتبة الخانجي- القاهرة، ط7، 1418هـ/ 1998م، ص42.
[3] المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، طبعة دار الميمان للنشر والتوزيع- الرياض، ط1، 1435هـ/ 2014م. وقد أحسن محققو دار الميمان بإثبات ما في الأصول الخطية، ولكن فاتهم إضاءة النص ببيان أن "مَسْلَمة" مصدر ميمي بمعنى: السلامة.
[4] المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، طبعة دار التأصيل- القاهرة، ط1، 1435هـ/ 2014م.
[5] المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، طبعة دار المنهاج القويم- سوريا، ط1، 1439هـ/ 2018م.
[6] المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، طبعة دار الرسالة العالمية- سوريا، ط1، 1439هـ/ 2018م.
[7] لا أقلِّل من دور المصادر المساعدة في تحقيق النصوص، ولكن الضابط هو الاستعانة بها عند وجود خطأ بيِّن أو تصحيف ظاهر أو تحريف يحيل المعنى، أمَّا استعمالها بهدف تحسين النص أو تغيير روايته فهذا أمر مرفوض.
[8] شرح علل الترمذي لابن رجب الحنبلي، تحقيق ودراسة د. همام سعيد، مكتبة المنار- الأردن، ط1، 1407هـ/ 1987م، 1/ 425.
[9] انظر: أصول نقد النصوص ونشر الكتب، برجستراسر، إعداد وتقديم: د. محمد البكري، دار المريخ- الرياض، 1402هـ/ 1982م، ص58. وانظر أيضًا: مناهج تحقيق التراث بين القدماء والمحدثين، د. رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي- القاهرة، ط1، 1406هـ/ 1985م، ص122.
[10] في منهج تحقيق المخطوطات، مطاع الطرابيشي، دار الفكر- دمشق، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص51.
[11] المصدر السابق، ص56.
[12] انظر: مناهج تحقيق التراث بين القدماء والمحدثين، ص93
----------------------------------------------------------------------------
المصدر: شبكة الألوكة
Powered by Froala Editor
Powered by Froala Editor