إطلاق تجريبي
4
منذ سنتين
إنَّ البشر ليسوا على قدر واحد من القدرات والملكات، وهم يتفاوتون في الجهد والعطاء، فهناك علماء يبرعون في التنظير وآخرون يبرعون في التنظير والتنفيذ (العمل)، وهناك من يبرع في صياغة النظريات، وآخرون يبرعون في التنفيذ المبدع، والميدان يتسع للجميع، لأنه في حاجة إلى مختلف الجهود والعقول. مع الأخذ في الحسبان أن العلماء يتفاوتون في التخصص العلمي ذاته، فهناك العالم الرائد الذي يبدع في تخصصه آتياً بالجديد المبتكر، وهناك من يتولى شرح نظريته، وهناك من يتتلمذ عليه، وينشر علمه، وهناك من ينزل نظريته إلى الواقع المعيش. ونحن في المجتمع نحتاج لكل هؤلاء، المنظّر الذي لديه القدرة على ترجمة الفكرة إلى نظرية والمطبق الذي يختبر النظرية في تجارب عديدة.
وقد أشار الإمام الماوردي إلى هذا الأمر، طارحاً سؤال: أي أفضل: الانقطاع إلى العلم أو إلى العمل؟
ويقول رداً على هذا السؤال: " وأما الانقطاع عن العلم إلى العمل أو الانقطاع عن العمل إلى العلم، إذا عمل بموجب العلم. فقد حكي عن الزهري فيه ما يغني عن تكلف غيره وهو أنه قال: العلم أفضل من العمل به لمن جهل، والعمل أفضل من العلم لمن علم " [1].
المعياران المتبنيان هنا: استكمال النقص، وإفادة الآخرين، فأما استكمال النقص فيعني أن الجاهل عليه أن يتلقى العلم، فلا معنى لعمل مفتقد للعلم. وأما إفادة الآخرين فهو موجه إلى العالم الذي امتلك العلم، ولكنه قد يقعد عن نشره والإفادة به، وهنا عليه أن يعمل به بأن يطبقه على نفسه، ويدعو الآخرين له، فلا يحبس علما عنهم، ويكون هو نموذجا في تطبيقه.
في ضوء ما تقدم، فإن العلماء لديهم دور تربوي واجتماعي يتعين عليهم القيام به، وهو يتصل بدورهم نحو مجتمعهم، والناس من حولهم. وكما ذكر في واجبات العلماء نحو متعلميهم، بأنهم ضربان: " مستدعى وطالب، فأما المستدعى إلى العلم فهو من استدعاه العالم إلى التعليم، لما ظهر له من جودة ذكائه وبان له من قوة خاطره، فإذا وافق استدعاء العالم شهوة المتعلم، كانت نتيجتها درك النجباء وظفر السعداء، لأن العالم باستدعائه متوفر، والمتعلم بشهوته وذكائه مستكثر...، وإن كان بليدا بعيد الفطنة، فينبغي ألا يمنع من اليسير فيحرم، ولا يحمل عليه بالكثير فيظلم " [2]
فنشر العلم واجب على العلماء بشكل عام، سواء مع الفطن النابه أو محدود الذكاء، فالعلم حق للجميع، ويبقى دور العالم / المعلم أن يعلم كليهما، فالنابه سيستزيد في طلبه العلم، فليواصل العالم معه الاستزادة، فما أجمل أن يلتقي حماسة العالم للتعليم مع استزادة طالب العلم وشهوته للتعلم! أما البليد فلا يُطرَد، بل يأخذ من العلم على قدر استطاعته. وفي هذا تعميم للعلم للكافة، وتصديق على ما يسمى في علم التربية الحديث " الفروق الفردية " التي تفاضل بين الطلاب، " فتعريفها أنها " الاختلافات التي نلاحظها بين الأفراد في مختلف السمات العقلية والانفعالية والجسدية، وهي فروق في الدرجة وليس النوع " [3]
وهذا لا يعني أن الطالب البليد يكون غير فائق البتة، بل الأمر متراوح بين الناس، فمن كان فائقا في مجال الفقه يكون ضعيفا في المجال البدني، ومن كان فائقا في الرياضيات يكون ضعيفا في الأدب، وتفوقه لا يعني أنه الوحيد الأبرز بل يتفاوت مع غيره في نفس المجال العلمي.
وهنا يظهر ما يسمى " فِراسة العالم " التي يكتشف بها النجباء، بأن " يكون للعالم فراسة يتوسم بها المتعلم، ليعرف مبلغ طاقته، وقدر استحقاقه، ليعطيه ما يتحمله بذكائه، أو يضعف عنه ببلادته فإنه أروح للعالم " [4]. ففراسة العالم تجعله يكتشف ذوي المواهب، فلا تخضع المسألة لروتينية المدارس وبيروقراطية الجهاز الحكومي، الذي يساوي في الكفاءات، ويجعل من الباحثين مجرد موظفين، أما العالم فهو يتحرّك بشكل ذاتي، وبوحي مجتمعي.
وختاما لهذه النقطة، فإن تفاوت القدرات والقابليات مبدأ إنساني عام، تشترك فيه كل الشعوب والحضارات وهو يمثل رأس المال الحقيقي للشعوب، والمتمثل في اكتشاف المواهب العلمية واستنهاض طاقات العلماء. ولنا في تجارب الدول نماذج لأهمية العناية بالبشر، ففي اليابان مثلا كانت النظرة واضحة في استثمار رأس المال البشري، وكانت سببا في قوة العمل اليابانية المتسمة بالكفاءة العالية، والمواهب الهندسية والإدارية الوافرة، كما برعوا في التعرف الذكي على الموهبة، وتأكيد الشعور الأكثر شمولا بالانتماء، والذي يمتد إلى العمال العاديين في العنابر، بحيث صار كل فرد يتعرف على موهبته وقدراته، ويجد من يستثمرها، ويرشدها إلى طريقها[5].
ولا يبقى لنا - في ختام الكلام - إلا التأكيد على أهمية الإدراك الواعي والمؤسس للفروض الكفائية، في تقاطعاتها الشرعية والمعرفية والفكرية مع عشرات القضايا.
[1] أدب الدنيا والدين، م س، ص114.
[2] أدب الدنيا والدين، ص116.
[3] الفروق الفردية في الذكاء، د. سليمان الخضيري الشيخ، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1990، ص20. ويذكر أن الفروق الفردية المقاسة من قبل علماء التربية تكون في الدرجة وليس النوع، بمعنى أنها تختلف في مستوياتها بين الأفراد في درجة تمكنهم من المهارة، أما النوع فهو فرق في الصفة نفسها كأن نقول هذا طويل وهذا قصير، فالمسألة نسبية بين الناس في درجة الطول أوالقصر. ص18.
[4] أدب الدنيا والدين، ص117.
[5] تاريخ الفكر الاقتصادي: الماضي صورة الحاضر، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 261، 2000، ص324.
------------------------
المصدر: شبكة الألوكة
Powered by Froala Editor
Powered by Froala Editor